تلبيس إبليس في الرحلة الى أنابوليس
بداية أعترف أنني اخترت هذا العنوان إعجابا بترنيمة السجع فيه؛ مستفيدا من عنوان رفاعة الطهطاوي "تلخيص الابريز في الرحلة الى باريز"؛ وهو مصنفه الذي أرَّخ فيه عن سفره إلى فرنسا...وأعترف أن الاهتمام بالشكل سبق المعنى عندي هذه المرة؛ ذلك أن التورط في الرحلة الى "أنابوليس" ليس فيه أي حيلة أو أي ذكاء خارق ينسب للمردة والشياطين؛ وليس في الرحلة شِرْك "من أصله" ليقع فيه المدعوون وتسند تهمة الغواية للمدعوة فتنة!
لقد ذهبت الأيام التي كانت فيها مشاريع الخيانة المسماة زورا وبهتانا بالسلام - كانت توسم بأنها فتن. لم يعد في الأمر ملمة جائحة ولا خديعة ولا فتنة تدع الحليم حيرانا. لن يحتار في أمر أنابوليس إلا غاو للحيرة مدمن على الفشل والتردد والعجز. فليست هذه رحلة السادات المشؤومة للقدس؛ وليس المؤتمر الموعود شركا حجم الخدعة فيه إعادة سيناء كاملة لمصر؛ سيناء التي تغطي ثُمن مساحة مصر...وليس في المؤتمر وعود بالإنفتاح الإقتصادي والوفرة لدرجة أن "يركب الزبال عربية" كما كان أولاد "الكامب" الأولى يروجون وقتها!
ليس أنابوليس عدلا بكامب ديفيد الأولى ولا الثانية. في كامب ديفيد الثانية – تلك التي تسوق على أنها بطولة وصمود مع أن فلسطين المحتلة عام ٤٨ كانت فيها خارج الحساب بشكل مفروغ منه! - كان هناك شيء ما في "الفاترينة". صحيح أنها كانت خازوقا بين "إدوارد سعيد" حجم الكذبة فيه وحجم دجلية "العرض السخي" في حينه؛ إلا أنه كان هناك شيء ما معروض على الطاولة. صحيح أن وادي الأردن كان سيبقى مع الصهاينة - تحت يافطة التأجير مدة ألف عام فقط! - وأن القدس ستقسم (المقصود هنا هو القدس الشرقية؛ وحذار من أن لا ترضى بنصيبك يا فلسطيني!) الا أنه كان هناك عرض حقيقي. نعم كان سخيفا أن ينحدر النقاش لمستوى أن نأخذ من الحرم ما هو فوق الأرض ونخسر ما تحتها؛ وصحيح أن الأمر بدا كما لو أنه معروض علينا أن نشتري سيارة مستعملة بدون كفالة وبثمن يدفع "كاش" فورا؛ ومن شركة هي برسم إعلان الإفلاس - كلا باراك وكلينتون كانا برسم الرحيل مع الانتخابات التي كانت تقترب – لكن هذا كله لم يلغ وجود عرض ما وفق نسبية الأمور؛ وحسب منطق لصوص البراغماتية ومهرجي الواقعية السياسية. وهكذا كانت الحال في كل هزليات المساومة والتفريط السابقة من الكامب الأولى وواي ريفر وأوسلو والكامب الثانية: كان هناك مزالق وكانت هناك أيضا جزرة لوح بها المستعمر؛ فأضل بعض "طيبي القلوب" الذين استمروا في الجري خلف الجزرة رغم حرارة الضرب بالعصاة الخيزرانية على أقفيتهم!
أما الآن فأين الفتنة في "أنابوليس"؟ والله أكاد أجزم أن إبليس اللعين والشيطان الرجيم يستحي أن يضع توقيعه على "خدعة" أنابوليس وشراكها؛ هذا إن جاز تسميتها بذلك تجاوزا! فهذا المؤتمر لم يدخر أصحابه في القول بكل اللغات والوجوه والألسن أنه مؤتمر اللاشيء. فهو سمي أولا مؤتمرا؛ ثم عاد أصحاب الدعوة وقالوا أنه اجتماع. وتباروا طوال الوقت بعد ذلك في التحذير من المبالغة في التوقعات والتطلعات؛ واستمر سقف الآمال الكبرى - غير تلك التي كتبها "تشارلز ديكينز" - ينخفض وينخفض حتى وصل الأمر لدرجة أن جمعة حماد مستشار الباب الواطي - أجدد شكري لصاحب براءة الاختراع للوصف البديع - قال بالأمس أنه " ستكون معجزة في ان يتوصل الجانبان الى وثيقة فيها مضمون وليس عناوين" (هذا ونحن نعتذر عن نقل العبارة الركيكة على حالها وكما هي حرصا على أمانة النقل عن المستشارين الذين يفكون الخط بالكاد!)
وأردف السياسي العظيم في شرح الموقف لجمهور شعبه بتعبيرات حافظت على نفس مستوى الركاكة فقال: "ان عدم التوصل لأي وثيقة والذهاب الى مؤتمر أنابوليس من دون أي ورقة هذا يعني ان هناك مشكلة كبرى" وتابع الشرح ببلاغة لا تنبغي الا لمستشاري الرؤساء فقال: "الذهاب من دون وثيقة كالذي يذهب الى الاجتماع بملابسه فقط ويعرض موقفه وحده آملا في ان يتم الاستجابة لها"
فهل رأيتم يا سادة حجم الفتنة التي نزلت بنا؟ أو بالأحرى حجم "الستين داهية" التي يجلبها لكم سياسيو فتح؟
ليس في الأمر إذا فتنة ولا بطيخ...هناك فقط سياسيون باعوا الثوابت وهم صفر في كل شيء؛ حتى في فن المفاوضات الذي صدعوا رؤوسنا به طوال الأعوام الماضية كخيار استراتيجي!
صحيح أنه خيار مخلل...
صار خلف جلد الأجرب يتفاوض من أجل التفاوض وحسب...يسافر ليقول رأيه وحسب؛ وكأن في هذا الرأي جديد...أي نحن أمام مدرسة "المفاوضات من أجل المفاوضات" مثل منهج "الفن للفن" أو "الأدب للأدب"!
هذا هو أنابوليس: الخدعة الغبية التي تحتقر ذكاء أغبى شيطان إنسيا كان أو جنيا. فالمؤتمر يا جماعة فارغ ولا قيمة له؛ وليس فيه لا عرض يناقش ولا مشروع حل؛ وكل ما سيحدث هو أن "كل طرف سيلقي خطابا ويقول موقفه وننتظر الموقف من ذلك"؛ كما أضاف الذي يشغل من عباس ما شغله الامام علي من عمر الفاروق رضي الله عنهما!
على أية حال أدعوا معي أن لا تكتمل فضيحة فلسطين؛ ويتمسك حماد ورئيسه وباقي الشلة من الذاهبين إلى "أنابوليس" بالموقف الذي حدده حماد؛ وهو أن "يذهب الى الاجتماع بملابسه"؛ فهذا قطعا سيكون أفضل من أن يتنازلوا حتى عن هذا السقف؛ ويظن القوم أنفسهم في فرع المقاطعة في أريحا حيث دارت حادثة الشلح التاريخية...وننتهي الى وضع لم يقم فيه رعاة "المشروع الوطني" للحركة "الغلابة" بالتفريط بالقدس وحق العودة وحيفا ويافا وحدود ٦٧ وذهبوا لمؤتمر اللا شيء وحسب؛ بل أكملوا مشهد السقوط والعري المعنوي بوصلة تعرٍّ على الحقيقة لا على المجاز!